فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)}.
جملة {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا دعا إليه مقابلة حكاية حال الكافرين وما يقال لهم يوم القيامة بحكاية ما يلقاه الذين آمنوا يوم القيامة وما يقال لهم.
فالذين سبقت لهم الحسنى هم الفريق المقابل لفريق القرية التي سبق في علم الله إهلاكها، ولما كان فريق القرية هم المشركين فالفريق المقابل له هم المؤمنون.
ولا علاقة لهذه الجملة بجملة {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} [الأنبياء: 98] ولا هي مخصصة لعموم قوله تعالى: {وما تعبدون من دون الله} بل قوله تعالى: {والذين سبقت لهم منا الحسنى} عام يعم كل مؤمن مات على الإيمان والعمل الصالح.
والسبق، حقيقته: تجاوز الغير في السير إلى مكان معين، ومنه سباق الخيل، واستعمل هنا مجازًا في ثبوت الأمن في الماضي، يقال كان هذا في العصور السابقة، أي التي مضت أزمانها لما بين السبق وبين التقدم من الملازمة، أي الذين حصلت لهم الحسنى في الدنيا، أي حصل لهم الإيمان والعمل الصالح من الله، أي بتوفيقه وتقديره، كما حصل الإهلاك لأضدادهم بما قدر لهم من الخذلان.
والحسنى: الحالة الحسنة في الدين، قال تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26] أو الموعدة الحسنى، أي تقرّرَ وعد الله إياهم بالمعاملة الحسنى. وتقدم في سورة يونس.
وذِكر الموصول في تعريفهم لأن الموصول للإيماء إلى أن سبب فوزهم هو سبق تقدير الهداية لهم.
وذِكر اسم الإشارة بعد ذلك لتمييزهم بتلك الحالة الحسنة، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما يذكر بعد اسم الإشارة من أجل ما تقدم على اسم الإشارة من الأوصاف، وهو سبق الحسنى من الله.
واختير اسم إشارة البعيد للإيماء إلى رفعة منزلتهم، والرفعةُ تشبه بالبعد.
وجملة {لا يسمعون حسيسها} بيان لمعنى مبعَدون، أي مبعدون عنها بعدًا شديدًا بحيث لا يلفحهم حرّها ولا يروعهم منظرها ولا يسمعون صوتها، والصوت يبلغ إلى السمع مِنْ أبعد مما يبلغ منه المرئي.
والحسيس: الصوت الذي يبلغ الحس، أي الصوت الذي يسمع من بعيد، أي لا يقربون من النار ولا تبلغ أسماعهم أصواتُها، فهم سالمون من الفزع من أصواتها فلا يقرع أسماعهم ما يؤلمها.
وعقّب ذلك بما هو أخص من السلامة وهو النعيم الملائم.
وجيء فيه بما يدل على العموم وهو {فيما اشتهت أنفسهم} وما يدلّ على الدوام وهو {خالدون}.
والشهوة: تشوق النفس إلى ما يلَذّ لها.
وجملة {لا يحزنهم الفزع} خبر ثان عن الموصول.
والفزع: نفرة النفس وانقباضها مما تتوقع أن يحصل لها من الألم وهو قريب من الجَزع.
والمراد به هنا فزع الحشر حين لا يعرف أحد ما سيؤول إليه أمره، فيكونون في أمن من ذلك بطمأنة الملائكة إياهم.
وذلك مفاد قوله تعالى: {وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون} فهؤلاء الذين سبقت لهم الحسنى هم المراد من الاستثناء في قوله تعالى: {ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا مَن شاء الله} [النمل: 87].
والتلقي: التعرض للشيء عند حلوله تعرض كرامة.
والصيغة تشعر بتكلف لقائه وهو تكلف تهيؤ واستعداد.
وجملة {هذا يومكم الذي كنتم توعدون} مقول لقول محذوف، أي يقولون لهم: هذا يومكم الذي كنتم توعدون، تذكيرًا لهم بما وُعدوا في الدنيا من الثواب، لئلا يحسبوا أن الموعود به يقع في يوم آخر. أي هذا يوم تعجيل وعدكم.
والإشارة باسم إشارة القريب لتعيين اليوم وتمييزه بأنه اليوم الحاضر.
وإضافة يوم إلى ضمير المخاطبين لإفادة اختصاصه بهم وكون فائدتهم حاصلة فيه كقول جرير:
يا أيها الراكب المزجي مطيته ** هذا زمَانُك إني قد خلا زمني

أي هذا الزمن المختص بك، أي لتتصرف فيه.
{يَوْمَ نَطْوِي السماء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ}.
جملة مستأنفة قصد منها إعادة ذكر البعث والاستدلال على وقوعه وإمكانِه إبطالًا لإحالة المشركين وقوعه بعلة أن الأجساد التي يدّعي بعثها قد انتابها الفناء العظيم {وقالوا أإذا كنا ترابًا وعظامًا أإنا لفي خلق جديد} [السجدة: 10] والمناسبة في هذا الانتقال هو ما جرى من ذكر الحشر والعقاب والثواب من قوله تعالى: {لهم فيها زفير} [الأنبياء: 100] وقوله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} [الأنبياء: 101] الآية.
وقد رُتّب نظم الجملة على التقديم والتأخير لأغراض بليغة.
وأصل الجملة: نعيد الخلق كما بدأنا أولَ خلق يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب وعْدًا علينا.
فحُوّل النظم فقدم الظرف بادىء ذي بَدء للتشويق إلى متعلقه، ولما في الجملة التي أضيف إليها الظرف من الغرابة والطباققِ إذ جعل ابتداءُ خلق جديد وهو البعث مؤقتًا بوقت نقض خَلق قديم وهو طي السماء.
وقدم {كما بدأنا أول خلق} وهو حال من الضمير المنصوب في {نعيده} للتعجيل بإيراد الدليل قبل الدعوى لتتمكن في النفس فضلَ تمكّن.
وكل ذلك وجوه للاهتمام بتحقيق وقوع البعث، فليس قوله: {يوم نطوي السماء} متعلقًا بما قبله من قوله تعالى: {وتتلقاهم الملائكة} [الأنبياء: 103].
وعقب ذلك بما يفيد تحقق حصول البعث من كونه وعدًا على الله بتضمين الوعد معنى الإيجاب، فعدي بحرف على في قوله تعالى: {وعدًا علينا} أي حقًّا واجبًا.
وجملة {إنا كنا فاعلين} مؤكّدة بحرف التوكيد لتنزيل المخاطبين منزلة من ينكر قدرة الله لأنهم لما نَفَوا البعث بعلة تعذر إعادة الأجسام بعد فنائها فقد لزمهم إحالتهم ذلك في جانب قدرة الله.
والمراد بقوله: {فاعلين} أنه الفاعل لِما وُعد به، أي القادر. والمعنى: إنا كنا قادرين على ذلك.
وفي ذكر فعل الكون إفادة أن قدرته قد تحققت بما دل عليه دليل قوله: {كما بدأنا أول خلق نعيده}.
والطّيُّ: رَدُّ بعض أجزاء الجسم الليِّن المطلوق على بعْضه الآخر، وضدّه النشر.
والسجل: بكسر السين وكسر الجيم هنا، وفيه لغات.
يطلق على الورقة التي يكتب فيها، ويُطلق على كاتب الصحيفة، ولعله تسمية على تقدير مضاف محذوف، أي صاحب السجل، وقيل سجل: اسم ملك في السماء ترفع إليه صحائف أعمال العباد فيحفظها.
ولا يحسن حملهُ هنا على معنى الصحيفة لأنه لا يلائم إضافة الطيّ إليه ولا إردافه لقوله: {للكتاب} أو {للكتب} ولا حملهُ على معنى المَلَك الموكَل بصحائف الأعمال لأنه لم يكن مشهورًا فكيف يشبه بفعله.
فالوجه: أن يراد بالسجل الكاتب الذي يكتب الصحيفة ثم يطويها عند انتهاء كتابتها، وذلك عمل معروف. فالتشبيه بعمله رشيق.
وقرأ الجمهور {للكتاب} بصيغة الإفراد، وقرأه حفص وحمزة والكسائي وخلف {للكُتب} بضم الكاف وضم التاء بصيغة الجمع.
ولما كان تعريف السجل وتعريفُ الكتاب تعريفَ جنس استوى في المعرّف الإفرادُ والجمعُ.
فأما قراءتهما بصيغة الإفراد ففيها محسن مراعاة النظير في الصيغة، وأما قراءة الكتب بصيغة الجمع مع كون السِجل مفردًا ففيها حسن التفنن بالتضاد.
ورسمُها في المصحف بدون ألف يحتمل القراءتين لأن الألف قد يُحذف في مثله.
واللام في قوله: {للكتاب} لتقوية العامل فهي داخلة على مفعول {طَيّ}.
ومعنى طي السماء تغييرُ أجرامها من موقع إلى موقع أو اقترابُ بعضها من بعض كما تتغير أطراف الورقة المنشورة حين تطوى ليَكتب الكاتب في إحدى صفحتيها، وهذا مظهر من مظاهر انقراض النظام الحالي، وهو انقراض له أحوال كثيرة وُصف بعضها في سُور من القرآن.
وليس في الآية دليل على اضمحلال السماوات بل على اختلال نظامها، وفي [سورة الزمر: 67] {والسماوات مطويات بيمينه} ومسألة دثور السماوات أي اضمحلالها فَرَضَها الحكماء المتقدمون ومال إلى القول باضمحلالها في آخر الأمر انكسمائس المَلْطي وفيثاغورس وأفلاطون.
وقرأ الجمهور {نطوي} بنون العظمة وكسر الواو ونصب {السماء}.
وقرأه أبو جعفر بضم تاء مضارعة المؤنث وفتح الواو مبنيًا للنائب وبرفع {السماء}.
والبَدء: الفعل الذي لم يُسبق مماثله بالنسبة إلى فاعلٍ أو إلى زمانٍ أو نحو ذلك.
وبَدْء الخلق كونه لم يكن قبل، أي كما جعلنا خلْقًا مبدوءًا غير مسبوق في نوعه.
وخلق: مصدر بمعنى المفعول. ومعنى إعادة الخلق: إعادة مماثلة في صورته فإن الخلق أي المخلوق باعتبار أنه فرد من جنس إذَا اضمحل فقيل فإنما يعاد مثله لأن الأجناس لا تحقق لها في الخارج إلا في ضمن أفرادها كما قال تعالى: {سنعيدها سيرتها الأولى} أي مثل سيرتها في جنسها، أي في أنها عصا من العصيّ.
وظاهر ما أفاده الكاف من التشبيه في قوله تعالى: {كما بدأنا أول خلق نعيده} أن إعادة خلق الأجسام شبّهت بابتداء خلقها.
ووجه الشبه هو إمكان كليهما والقدرة عليهما وهو الذي سيق له الكلام على أن التشبيه صالح للمماثلة في غير ذلك.
روى مسلم عن ابن عباس قال: «قام فينا رسول الله بموعظة فقال: يا أيها الناس إنكم تُحشرون إلى الله حُفاة عراة غُرْلًا {كما بدأنا أول خلق نعيده وعدًا علينا إنا كنا فاعلين}» الحديث.
فهذا تفسير لبعض ما أفاده التشبيه وهو من طريق الوحي واللفظ لا يأباه فيجب أن يعتبر معنى للكاف مع المعنى الذي دلت عليه بظاهر السياق. وهذا من تفاريع المقدمة التاسعة من مقدمات تفسيرنا هذا.
وانتصب {وعدًا} على أنه مفعول مطلق لـ: {نعيده} لأن الإخبار بالإعادة في معنى الوعد بذلك فانتصب على بيان النوع للإعادة.
ويجوز كونه مفعولًا مطلقًا مؤكدًا لمضمون جملة {كما بدأنا أول خلق نعيده}. اهـ.

.قال الشعراوي:

{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)}.
بعد أن ذكر سبحانه جزاء الكافرين في النار ذكر المقابل، وذِكْر المقابل يوضح المعنى، اقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13- 14].
ويقول: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا} [التوبة: 82] لذلك تظل المقارنة حيَّة في الذِّهْن.
ومعنى: {سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى} [الأنبياء: 101] الحُسْنى: مؤنث الأحسن، تقول: هذا حَسَن، وهذه حسنة، فإنْ أردتَ المبالغة تقول: هذا أحسن، وهذه حُسْنى. مثل: أكبر وكُبْرى. ومعنى: {سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى} [الأنبياء: 101] أنهم من أهل الطاعة، ومن أهل الجنة، فهكذا حُكْم الله لهم، وقد أخذ الله تعالى جزءًا من خَلْقه وقال: «هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي».
ولا تقُلْ: ما ذنب هؤلاء؟ لأنه سبحانه حكم بسابق عِلْمه بطاعة هؤلاء، ومعصية هؤلاء.
وقوله: {أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] أي: مبعدون عن النار.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشتهت}.
حسيس النار: أزيزها، وما ينبعث منها من أصوات أول ما تشتعل {وَهُمْ فِي مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء: 102] فلم يقُلْ مثلًا: وهم بما اشتهتْ أنفسهم، إنما {فِي مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ} [الأنبياء: 102] كأنهم غارقون في النعيم ممَا اشتهتْ أنفسهم، كأن شهوات أنفسهم ظرف يحتويهم ويشملهم. وهذا يُشوِّق أهل الخير والصلاح للجنة ونعيمها، حتى نعمل لها، ونُعِد العُدَّة لهذا النعيم.
وسبق أن قلنا: إن الإنسان يتعب في أول حياته، ويتعلم صنعة، أو يأخذ شهادة لينتفع بها فيما بعد ويرتاح في مستقبل حياته، وعلى قَدْر تعبك ومجهودك تكون راحتك، فكل ثمرة لابد لها من حَرْث ومجهود، والله عز وجل لا يُضيع أجرَ مَنْ أحسن عملًا.
وكنا نرى بعض الفلاحين يقضي يومه في حقله، مهملَ الثياب، رثَّ الهيئة، لا يشغله إلا العمل في زرعه، وآخر تراه مُهنْدمًا نظيفًا يجلس على المقهى سعيدًا بهذه الراحة، وربما يتندر على صاحبه الذي يُشقِى نفسه في العمل، حتى إذا ما جاء وقت الحصاد وجد العامل ثمرة تعبه، ولم يجد الكسول غير الحسرة والندم.
إذن: ربك-عز وجل- أعطاك الطاقة والجوارح، ويريد منك الحركة، وفي الحركة بركة، فلو أن الفلاح جلس يُقلِّب في أرضه ويُثير تربتها دون أنْ يزرعها لَعوَّضه الله وأثمر تعبه، ولو أن يجد شيئًا في الأرض ينتفع به مثل خاتم ذهب أو غيره.
وترف الإنسان وراحته بحسب تَعبه في بداية حياته، فالذي يتعب ويعرق مثلًا عَشْر سنين يرتاح طوال عمره، فإنٍْ تعب عشرين سنة يرتاح ويرتاح أولاده من بعده، وإنْ تعِب ثلاثين سنة يرتاح أحفاده وهكذا.
وترَف المتعلم يكون بحسب شهادته: فهذا شهادة متوسطة، وهذا عُلْيا، وهذا أخذ الدكتوراة، ليكون له مركز ومكانة في مجتمعه.
لَكِن مهما أعدَّ الإنسان لنفسه من نعيم الحياة وترفها فإنه نعيم بقّدْر إمكانياته وطاقاته؛ لذلك ذكرنا أننا حين سافرنا إلى سان فرانسيسكو رأينا أحد الفنادق الفخمة وقالوا: إن الملك فيصل- رحمه الله- كان ينزل فيه، فأردنا أنْ نتجوّل فيه، وفعلًا أخذنا بما فيه مظاهر الترف والأُبهة وروعة الهندسة، وكان معي ناس من عِلْية القوم فقلتُ لهم: هذا ما أعدّه العباد للعباد، فما بالكم بما أعدَّه رب العباد للعباد؟
فإذا ما رأيتَ أهل النعيم والترف في الدنيا فلا تحقد عليهم؛ لأن نعيمهم يُذكِّرك ويُشوِّقك لنعيم الآخرة.
ثم يقول الحق سبحانه: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر}.
ذلك لأنهم في نعيم دائم لا ينقطع، وعطاء غير مجذوذ، لا يفوتك بالفقر ولا تفوته بالموت؛ لذلك: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103] وأيُّ فزع مع هذه النعمة الباقية؟ أو: لا يحزنهم فزع القيامة وأهوالها.
وقوله: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 103] فقد صَدَقكم الله وَعْده، وأنجزَ لكم ما وعدكم به من نعيم الآخرة.
ثم يقول الحق سبحانه: {يَوْمَ نَطْوِي السماء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا}.
أي: ما يحدث من عذاب الكفار وتنعيم المؤمنين سيكون {يَوْمَ نَطْوِي السماء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104] ويَوْمَ: زمن وظَرْف للأحداث، فكأن ما يحدث للكافرين من العذاب والتنكيل، وما يحدث للمؤمنين من الخلود في النعيم يتم في هذا اليوم.
والسجل: هو القرطاس، والورق الذي نكتب فيه يُسمَّى سجلًا؛ ولذلك الناس يقولون: نسجل كذا، أي: نكتبه في ورقة حتى يكون محفوظًا، والكتاب: هو المكتوب.
والحق سبحانه يقول في آية أخرى: {والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] يطويها بقدرته؛ لأن اليمين عندنا هي الفاعلة في الأشياء، ولَكِن لا نأخذ الطي أنه الطي المعروف، بل نأخذه في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].
وقوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] يدلنا على أن الحق سبحانه يتكلم عن الخَلْق الأول و{نُّعِيدُهُ} تدل على وجود خَلْق ثَان.
إذن: فقوله تعالى في موضع آخر: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48] دليل على أن الخَلْق الأول خَلْق فيه الأسباب وفيه المسبّب، فالحق سبحانه أعطاك في الدنيا مُقومات الحياة من: الشمس والقمر والمطر والأرض والماء.... إلخ.، وهذه أمور لا دَخْل لك فيها، وكل ما عليك أنْ تستخدمَ عقلك الذي خلقه الله في الترقي بهذه الأشياء والترف بها.
أما في الخلق الثاني فأنت فقط تستقبل النعيم من الله دون أَخْذ بالأسباب التي تعرفها في الدنيا؛ لأن الآخرة لا تقوم بالأسباب إنما بالمسبِّب سبحانه، وحين ترى في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر تعلم أن فِعْل ربك لك أعظم من فِعْلك لنفسك.
ومهما ارتقتْ أسباب الترف في الدنيا، ومهما تفنَّن الخَلْق في أسباب الراحة والخدمة الراقية، فقصارى ما عندهم أن تضغط على زِرٍّ يفتح لك الباب، أو يُحضِر لك الطعام أو القهوة، لَكِن أتحدَّى العالم بما لدية من تقدُّم وتكنولوجيا أنْ يُقدم لي ما يخطر ببالي من طعام أو شراب، فأراه أمامي دون أنْ أتكلم؛ لأن هذه مسألة لا يقدر عليها إلا الله عز وجل.
فقوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} [الأنبياء: 103] فالمعنى ليستْ مجرد إعادته كما كان، إنما نعيده على أَرْقى وأفضل مما كان بحيث يصل بك النعيم أنْ يخطرَ الشئ ببالك فتجده بين يديك، بل إنَّ المؤمن في الجنة يتناول الصنف من الفاكهة فيقول: لقد أكلْتُ مثل هذا من قبل فيُقال له: ليس كذلك بل هو أفضل مما أكلْتَ، وأهنأ مما تذوقتَ. فلو تناولتَ مثلًا تفاح الدنيا تراه خاضعًا لنوعية التُّرْبة والماء والجو المحيط به والمبيدات التي لا يستغني عنها الزرع هذه الأيام... إلخ. أمّا تفاح الآخرة فهو شيء آخر تمامًا، إنه صَنْعة ربانية وإعداد إلهيّ.
وكأن الحق سبحانه يلفت عباده إلى أن عنايته بهم أفضل من عنايتهم بأنفسهم؛ لأنه سبحانه أوْلَى بنا من أنفسنا، ولكي نعلم الفرق بين الشيء في أيدينا والشيء في يده عز وجل.
ثم يقول تعالى: {وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104] أي: لا يُخرِجنا شيء عمَا وعدنا به، ولا يخالفنا أحد. اهـ.